صراعُ الذات والفلسفة الخيميائية مقاربة نقدية في رواية ميّاسة النخلاني "سميتها فاطمة" صراعُ الذات والفلسفة الخيميائية مقاربة نقدية في رواية ميّاسة النخلاني "سميتها فاطمة"

 

عبده منصور المحمودي

شاعر وناقد يمني. أكاديمي في جامعة عدن

 

في روايتها "سمّيتها فاطمة"([1])، تناولت الكاتبة ميّاسة النخلاني، إشكاليةَ الصراع في الذات الإنسانية، حينما يحتدم فيها التناقض بين حياتين: حياة داخلية مُتَشَكِّلة من منظومة الأفكار الذاتية والمشاعر والاحتياجات والرغبات. وحياة خارجية مُتَمَثّلة في الدائرة الاجتماعية المحيطة بهذه الذات، والسياق العائلي منها بوجهٍ خاص.

بناءُ الشخصية والفضاء السردي

استهل هذا العمل اشتغاله على بُنية الشخصية من بوابته الأولى (العنوان)، فضمّنه اسمَ الشخصية (فاطمة)، بوصفها واحدةً من أهم شخصياته المحورية، إن لم تكن شخصيته الرئيسة، في وجهٍ من وجوهها الفاعلةِ في سياقاته السردية. وقامت صياغةُ العنوان على نسقٍ من اتصاله المباشر بمتْنِ الرواية؛ فهو واحدةٌ من جُمَلِ المتْنِ السردي، التي وردت في سياق اطمئنانِ الأب على حياة الأم، بعد ولادتها: "فاطمة.. سأسميها فاطمة على اسم والدتك رحمها الله"([2]). بما في هذا القول من قصدية الأب، في أن تكون ابنته سَمِيّةَ جدتها لأمها؛ تخفيفًا لما لاحظه عليها من مشاركتها له الانكسار والحسرة؛ لعدم تحقُّقِ أمنيتهما في الارتزاق بولدٍ، لا بأنثى سبقتْها أخواتٌ ثلاث.

كما انطوت هذه العنونة على نوعٍ من التحوير في زمن فعل (التسمية)، من صيغة المضارع في (جملة المتن) إلى صيغة الماضي في (جملة العنوان). فأضفى هذا التحوير على الجملتين اتّساقًا مع الوظيفة السياقية لكُلٍّ منهما؛ إذ تضمن سياق (جملة المتن) حدَثَ الولادة وبدْءَ حياةٍ جديدة، فكانت الصيغة المتناسبة معه هي الصيغة المستقبلية؛ لاستيعاب الحديث عمّا سيُتّخذُ من قراراتٍ بشأن المولود، واختيار اسمه في صدارة هذه القرارات. كما تضمّن سياق (جملة العنونة) الدلالةَ على ما سُرد من حياة هذا المولود، بدءًا من لحظة ولادته، حتى مرحلةٍ متقدمةٍ من عمره، فاتّسقتْ معه صياغة الماضي؛ للإحالة على قرارِ اختيارِ تلك التسمية.

ومثلما ارتبطت المحورية في نسيج الحكاية وأحداثها بشخصية (فاطمة)، ارتبطت المحورية ذاتها بشخصية ابنها (خالد)، بمعية عددٍ من الشخصيات، التي تكاملت أدوراها في استيعاب السياقات السردية: (أبوا فاطمة/ عمها/ أخواتها الثلاث/ زوجها حسن/ أخوه محسن/ ضرتها فادية وابنها سعيد وشقيقته رنا).

انقسم الحيز المكاني في هذه الرواية، على محافظتي (تعز/ وصنعاء)، استهلالًا بإحدى قرى (جبل صبر) في محافظة (تعز)، مرورًا بالانتقال إلى حيٍّ من أحياء المدينة، وانتهاءً باستقرارِ مركزيةِ الأحداث في مدينة (صنعاء). وارتبط الحيز الزماني ارتباطًا وثيقًا بصيرورةِ حياة شخصياتِ العمل: (ميلاد قائد/ شبابه/ زواجه/ إنجابه بناتًا أربع/ زواج كل واحدةٍ منهن). ثم استطرادًا في حياة الأخيرة منهن (فاطمة)، وصولًا إلى مرحلة الشباب في عُمْرِ: ابنها (خالد)، وعُمْرِ أخيه غير الشقيق (سعيد). بما في مرحلتهما العمرية- هذه- من محوريةٍ خاصّةٍ بسنواتٍ ثلاث، بدأت بحادثة اعتراكهما الدموي، وانتهت بتصالحهما.

وعلى ما في هذا الارتباط الوثيق- بين الحيّز الزمني وبين صيرورة حياة الشخصيات- من بُنيةٍ تفي بتَمَثُّلِ هذا البعد السردي، إلّا أن تموضعَه في مساحةٍ زمنيةٍ من السياقات المعاصرة، كان سيكون أكملَ استيعابًا لهذه البُنية السردية، بما في هذه الإشارة من الأخذ بعين الاعتبار تأويلَ قصديةٍ كامنةٍ وراء مواربةِ هذه المساحةِ الزمنية التاريخية؛ لما في هذه المساحة من أهميةٍ في تحقيق الكتابة الروائية اتصالها النسيجي، بمحطات التحوُّل الاجتماعي وخصوصيةِ كلِّ مرحلةٍ من مراحله.

أنساقُ التراجيديا

مثّلت التراجيديا في هذا العمل سياقًا جوهريًّا في حياة عدد من شخصياته؛ فقد عاشت الشخصية الرئيسة (فاطمة) طفولةً مسحوقةً بالفقر والمعاناة، وحينما لاحت لها لحظةُ السعادة في موعدِ زفافها إلى الشاب الثريّ (حسن)، لم ينته سفرها إليه من (تعز) إلى العاصمة إلّا على وقع خبرٍ صادم؛ إذ توفي أبوها في الليلة ذاتها بعد ساعاتٍ من زفافها، فعادت إليه مثخنةً بالحزن والأسى، ألقت عليه نظرة الوداع، انتهت مراسيم العزاء فسافرت برفقة عريسها إلى حياتها الجديدة في دار أبيه في مدينة (صنعاء). وهناك كانت على موعدٍ مع تراجيديا معاناةٍ جديدة بطلُها زوجها، فقد تمادى في اضطهادها وتعنيفها وضربها لأي سببٍ من الأسباب. ولم يَحُلْ دون قسوته معها بلوغُ جنينها في بطنها شهره السابع؛ إذ كان على وشك السقوط في جولةٍ من جولات ضرب أبيه لأمه، لولا تدخل عمه (محسن)، الذي أنقذه وأنقذها بتوجيهه لكمةً قويةً إلى وجه أخيه، فضَّ بعدها الأبوان اشتباك الأخوين. نُقلت هي إلى المستشفى، وغادر زوجها غاضبًا، قاد سيارته بسرعةٍ جنونيةٍ، كانت كفيلةً بإزهاق روحه في حادثٍ مروري. ألقى موتُه شراسةً تراجيديةً جديدةً في حياة أسرته، سيما حياة أخيه (محسن) الذي دخل في عُزْلَةِ ندمٍ وتأنيبٍ قاسية. والأمر ذاته في حياة (فاطمة) التي تمزقت حزنًا. جاء عمها محمّد مُعزِّيًا وراغبًا في أخذها للعيش معه، التمسوا منه الإبقاء عليها حتى تلد ابنهم، فوافق. حان مخاضها، فأنجبت (خالد)، لم يكن من السهل على أسرته القبول بالتفريق بينه وبين والدته، فوجد عمه (محسن) سياقًا للتكفير عما اقترفه في حق أخيه، فتزوج منها، ومنحت الحياةُ الأسرةَ الصغيرة قسطًا من الخير والسعادة.

شعرت (فاطمة) بأن من حق (محسن) أن يرزق بولدٍ من صلبه، بعدما ظهر العيب عندها في عدم الإنجاب، شجّعته على الزواج بأخرى، واختارت بنفسها ضرتها (فائدة)، التي أنجبت (سعيد) وأخته (رنا).

ظهرت تراجيديا المأساة على هيئةِ غِيْرَة، تنامت بين الأخوين غير الشقيقين (خالد/ وسعيد)، عزَّزتْها مشاعرُ الحزنِ، التي افترست (خالد) بعد معرفته أن (محسن) ليس أباه، وأنه يتيمٌ تُوفّي أبوه وهو في بطن أمه، فتفاقمت غيرته من (سعيد) إلى أن صارت سلوكًا عدائيًا انتهى بحادثٍ مؤسفٍ، جَرَحَ فيه أخاه بحجرٍ كادت أن تقضي عليه. ترك هذا الحدثُ أثرًا بالغًا في نفسه وحياته، انتقلت به أمه إلى منزل آخر، وعاشت معه؛ لترعى حاله المأساوية، التي كانت تداهمه في صورةِ كوابيسَ واضطرابٍ نفسيٍّ حادٍّ، ينادي (سعيد) طالبًا مساعدته، مؤكدًا له أنه ليس بقاتل، وحينما عجز الأطباء عن حل أزمته، قررت أمه الاستعانة بصاحب الشأن ذاته (سعيد)، تواصلت معه، فكان لها ما تريد، فانزاحت تراجيديا المأساة مع هذه التسوية التي انتهت إليها الرواية.

بين "قابيل" و"يوسف"

تتمحور الفكرة العامة التي استهدفتها هذه الرواية في المفارقة بين صورتين من حياة الفرد (داخليةً/ وخارجية)، حيث عملت على تسريدها في أحداثٍ منتميةٍ إلى دائرة السلوك الاجتماعي الخاص بالعلاقات العدائية بين الإخوة، في أنساقٍ ثلاثة.

تجسّد النسق الأول في علاقة (قائد/ أب فاطمة) بأخيه (محمد)، الذي نال ثقة أبيه فتمكّن من ثروته كلها، وبعد وفاة الأب استحوذ عليها، فحَرَمَ منها إخوته، وبينهم (قائد) الذي ترافق حرمانُه من حقوقه، مع حرمانه من إنجاب الذكور، فكان هذا الحرمان وسيلةً إضافية استغلها الأخ المتجبر في إذلال أخيه، تماهيًا منه في ثقافة الانتقاص الاجتماعي للأنثى والتحيّز للذكر. طلب الأخ المتعالي لابنه يَدَ كُبرى بناتِ أخيه، رفض الأب، واختار حماية بناته؛ فانتقل للإقامة في المدينة. ثم كان زواج ابنته (فاطمة) من الشاب (حسن) إيذانًا بمعايشة النسق الثاني، المُتَمَثِّل في علاقة زوجها بأخيه (محسن)، الذي أنقذها من عنفه الوحشي. ومن تداعيات إنقاذه، توالدت حيثيات النسق الثالث الخاص بالعلاقة بين الأخوين (خالد/ وسعيد)، وما ترتب على العدائية فيها من حدثٍ مأساوي.

أول ما يتبادر إلى الذهن- من الموروث التاريخي والديني المستوعب للعلاقة العدائية بين الأخوين- هو مضمون قصة (قابيل وهابيل) عليهما السلام، لكن الملاحظ أن آلية الكتابة السردية لم تستثمر هذه القصة، وعدلت عنها- ربما بعد التأمل في أبعادها ومصائرها- إلى قصة نبي الله (يوسف) عليه السلام، فوظفت فكرتها الجوهرية المتمثلة في غيض إخوة (يوسف) مما وصل إليه من حظوة لدى أبيهم، وتفكيرهم في التخلص منه بأية طريقةٍ، حتى ولو كانت قتلًا؛ ليخلو لهم المجال فيستأثروا بمكانته([3]).

إن البعد الفاعل في العدول إلى هذه القصة القرآنية- عوضًا عن الأخرى- كامنٌ في اختلاف المصير في كلٍّ منهما، فالقتل هو مصير قصة ابني (آدم)، بينما توقف مصير قصة (يوسف) عند قذفه في البئر، وافتراء حادثة الذئب، وتقديم القميص لأبيه بدمٍ غير دمه. وبذلك اتّسق هذا المصير مع حال (خالد/ وسعيد)، التي لم يكن فيها القتل مصيرًا، ولا نيّةً لدى خالد في اقترافه.

استثمرت الكاتبة رمزية التراث الديني، بانتقائيةٍ موفقةٍ لصيغته التي لا تصل عدائيةُ الإخوة فيها إلى رغبةِ أحدهما في قتل الآخر. ومن خلال هذه الانتقائية قدّم السياق السردي تشخيصًا للعلاقةِ الإشكالية بين الإخوة، فأعادها إلى نوعيةِ معاملة الأسرة لأبنائها، بما فيها من عوامل كفيلة بإشعارهم بتمايُز هذه المعاملة ومفارقتها التفضيلية فيما بينهم، بغض النظر عن ماهيتها عفويةً كانت أو قصدية، وغايتها تأديبيةً كانت أو تحفيزية. ذلك أن شعور الأبناء بهذا النوع من معاملة الآباء، قد لا يكون- في بعضٍ من أحواله- موضوعيًّا، وإنما التباسًا في فهمها، ومن هذا الالتباس ينشأ شعورهم بالغبن، وهو الشعور الذي وصل بالعلاقة بين الأخوين (خالد/ وسعيد) إلى العدائية.

لقد فهم (خالد) المسؤولية- في تكليفه بإدارة عمل (محسن) التجاري- نوعًا من إثقالِ عمه عليه ورغبته في أن يجني مقابلًا لرعايته إياه. كما فهم أن إعفاء (سعيد) من ذلك، ليس إلّا مبالغةً من الأب في تدليل ابنه. وفي مقابل هذا الالتباس، كان الالتباس المناقض لدى (سعيد) الذي فهم في ذاك التكليف انتقاصًا منه في تقدير أبيه الذي منح ثقته لأخيه. بينما أحال السياق السردي، على وجهة نظر الأب البعيدة عما ذهبا إليه؛ فقد كان ينظر إلى الأمر، من زاويةِ الفارق العمري المتقارب بينهما لصالح (خالد)، الذي رآه أقدر على حمل المسؤولية، والأصغر منه (سعيد) سيأتي الوقت المناسب لإشراكه في المسؤولية تلك أو الاعتماد عليه في مسؤولية مختلفة. لكن هذه الزوايا المتناقضة في النظر إلى هذه الإشكالية، لم تقف عند الحدود الآمنة، وإنما كانت سببًا رئيسًا في ما حدث من مأساة بين الأخوين.

أبعاد الرؤية السردية

تقوم الرؤية السردية في هذا العمل على استكناه حقيقة الأشياء، وعدم التوقف عند مظهرها الخارجي، حيث تصدّرت هذه الرؤيةُ الصفحات الاستهلالية من هذه الرواية، في القول: "ليست الأمور غالبًا على ما تبدو عليها، فما تراه أعيننا لا يمثل إلا القشرة الخارجية التي تخفي تحتها عالمًا آخر، في أوقاتٍ كثيرة، لا يمت بصلة إلى العالم الظاهري"([4]). وتكمن في هذا العالم الآخر جذور المشكلات، التي تتمظهر أعراضًا سلوكية عدائية. وقد كانت معالجة هذه المشكلات نسقًا محوريًّا في هذه الرؤية السردية، التي أوردت الإشارة إلى ذلك، بالقول: "الحل أسهل بكثير، فقط لو يقتنعون بمواجهة المشكلة والبحث عن جذورها"([5]).

أسقطت آلية التدوينِ أبعادَ هذه الرؤية على أحداث العمل، وتجليات الخطاب السردي فيه؛ فسبرت إشكالية العلاقة العدائية بين الإخوة في أغوار الطفولة، كالحرمان من احتياجات هذه المرحلة العمرية في حياة (فاطمة)، حينما زرعت شجرة برتقال في فناء منزل أبيها في تعز، واقتلعها مالكُ المنزل بحجة أن جذورها ستعمل على تفكيك أرضية البناء. لم تتجاوز (فاطمة) هذه الهزيمة إلا في حياتها الزوجية، بعدما زرعت شجرة برتقال في حديقة منزلها، وللأسف كان ظل هذه الشجرة مسرحًا للحادثة الدامية بين الأخوين.

ثم حرمانٌ آخر، توالدَ انكسارًا وضغينةً في نفس (سعيد)، بعدما رفض (خالد) مساعدته في تفعيل طيران طائرته الورقية، إذ نهره وصرخ في وجهه، فأعادها إلى دولابه غير متحمسٍ للعب بها([6]). تجاوز مرحلة الطفولة، لكن لم يستطع الإفلات من هذا الشعور المؤلم، الذي داهمه في شبابه، حينما لاحظ أطفالًا يلعبون اللعبة ذاتها، بأريحية وسعادة، فتذكر انكساره القديم([7]).

ومن تجليات الخطاب السردي، ما يتعلق بحاجة الطفل إلى الحرية في أن يعيش حياته كما يريد، وهو ما ظهر في موقفٍ صادَفَهُ (سعيد) في حديقة الأطفال بمدينة دراسته (نيويورك)، تشاجرت طفلةٌ مع أخيها الأصغر منها على مكان الجلوس، فنهرتها أمها، انزوت تبكي بصمت، ابتسم لها وكتب في مذكراته في تلك اللحظة: "الأطفال هنا صاخبون ولعلهم كذلك في كل بقعة إلا في بيت محسن النجار حيث الهدوء المصطنع الذي يخفي خلفه مشاعر متضاربة. لا يتوقف الأطفال هنا عن البكاء والشجار، تتذمر الأمهات من عنادهم وضجيجهم. ليت لي القدرة لجمع أمهات العالم وأقول لهن لا تفعلن ذلك، لا تكتمن صيحات أطفالكن، دعوهم يعيشون طفولتهم كما يريدون، فالطفل الهادئ ليس على ما يرام، الطفل الساكن قلبه لا ينبض بشكل طبيعي ويعاني علة ما..."([8]).

وفي سياق هذه الرؤية السردية وخطابها السردي يأتي التعاطي مع الحقيقة، ومع أهمية الاحتفاء بها وعدم إخفائها مهما كانت المبررات؛ تحاشيًا لما يمكن أن يترتب على مواربتها عند الطفل من تداعيات سلبية، منها ما يصل بصاحبها إلى مآسٍ قاسية. وتظهر تجليات هذا المسار في طفولة (خالد) الذي انصدم بحقيقة يُتْمه، بعد زمنٍ من أُبُوَّةٍ غير حقيقية، فأصيب بانتكاسةٍ عاطفية، سرعان ما تفاقمت إلى عدائيةٍ وعزلةٍ بائسة.

تنمو تفاصيل الرؤية السردية، بنسقيةٍ متوائمةٍ مع تداعياتِ المعضلة، التي تسعى إلى استيفاء محطاتها وإنجاز الخطاب السردي الخاص بها. ذلك في ملامسة هذه الرؤية لحال (خالد) العدائية، التي تتوارى خلف قشرةٍ من الصمت والشرود والانعزال الحزين؛ تداعيًا لصراعٍ ذاتي يفتك به؛ فحينما تتأزم المشاعر، تفقد الذات القدرة على تحملها، فيلوذ الشخص بانزواءٍ اغترابيٍّ، وعزلةٍ تفضي إلى استشعاره قوةً عدائية تحاول السيطرة عليه، فيتصرف بعدائية مع كل ما يحيط به([9]) .

وفي هذا البُعد، تصل الرؤية السردية، إلى إضاءة نسقها المتضمّن أهميةَ تَتَبُّعِ شخصية الطفل والمؤثرات الطارئة عليها، ومحاولة الاقتراب منه واستيضاح مشاكله، وهو ما غفلت عنه أسرة (خالد)، وظهر في حديث (رنا) مع أخيها (سعيد)، مُفَسِّرَةً به ذاك الحدث المأساوي: "لا أنكر أنه كان يثير فضولي بساعات جلوسه الطويلة في الحديقة، وصمته المطبق، كنت أشعر أن صمته يحوي كلامًا كثيرًا، خاصة بعد أن لمحتُه مرة يبكي بصمت وحرقة... "([10])، مؤكدةً إن إحساسه باليُتم هو سبب حاله تلك: "تشجعتُ مرة واقتربت من كتبه حين ترك كتابه وذهب ليجيب والدي، كانت صورة عمي حسن رحمة الله عليه هي ما تبقيه شاردًا لوقت ليس بالقصير، أدركت بعدها أنه يشتاق لوالده، ويشعر بالغربة رغم أنه معنا. للأسف لم ينتبه له أحد وتركناه جميعًا لصمته وعزلته"([11]).

كما يلامس بُعْدٌ آخر من أبعاد الرؤية السردية، ما ينبغي أن يحظى به الشاب من حريةِ اتِّخاذِ القرار بعد بلوغه السن المناسبة لذلك؛ لأن الوصاية عليه سببٌ مباشر فيما يظهر عليه من سلوك عدائي. وقد تمثّل هذا البُعدُ فيما أقدمت عليه أسرة (حسن) من وصاية عليه، وإجباره على مفارقة زميلته الجامعية، والزواج بأخرى، فانعكس الأمر عليه عدائيةً انتهت بها حياته بعد أشهر من زواجه.

وفي مقابل مأساوية هذا الموقف، تقدم الرؤية السردية موقفًا آخر ضمّنته معالجةً لإشكاليةٍ مماثلةٍ، كانت في طريقها إلى المأساوية ذاتها، ذلك فيما قام به (سعيد) من إنقاذ لشقيقته (رنا)، من خطبتها على شابٍ أجبرها أبوها على القبول به.

وبهذا الموقف انتقلت الرؤية السردية، من تشخيص المشكلة إلى معالجتها، سيما في البؤرية الرئيسة، التي قامت عليها الحكاية في هذا العمل، والمتمثلة في الحدث الدامي بين الأخوين وتداعياته، فقد تمت معالجةُ المشكلةِ بنجاحِ مسعى المصالحة بينهما، وعودة العلاقة بين أفراد الأسرة إلى سياقها الإيجابي.

 

الخيميائية والبُنى السردية

انتظمت أنساق الرواية على لسان الراوي العليم، فسُرِدت أحداثُ الحكايةِ بلغةٍ عربية فصحى، تجانست معها فصاحةُ اللغةِ الحوارية، التي تخلّلت العملَ في كثيرٍ من المواضع.

وفيما يتعلق بآلية توزيع المضامين السردية، فقد كانت الفصولُ هي الأُطر التوزيعية الخمسة، التي انطوت على أُطُرِ تقسيمٍ داخليٍّ لمحتوى كلِّ فصلٍ على أجزاء. مع ملاحظة أن عدد الصفحات في كل فصلٍ يتقارب- إلى حدٍّ ما- مع عدد صفحات الفصول الأخرى. باستثناء الفصل الخامس، الذي استأثرَ بما يقارب النصف من حجم الراوية([12]). وعلى ما في هذا الفصل، من ترابطٍ نسيجيٍّ بين تفاصيله بشكلٍ متدفقٍ، وانسيابيةٍ لا يجد معها القارئ إشكاليةً مترتبةً على فارق حجمه، إلا أن ذلك لا يُغني عمّا كان سيضفيه التوازنُ على فصولِ العمل كله، من قيمةٍ فنيةٍ، فيما لو كان قد مُنح قدْرًا من الاشتغالِ التوزيعي لأنساق الحكاية.

ولعل من أهم الخصائص الفنية في هذا العمل، المهارة العالية في إضفاء التشويق على سياقاته، من خلال التقسيط في عملية الكشفِ عن ماهيةِ الحدث المحوري ومأساته الدامية بين الأخوين (خالد/ وسعيد)؛ إذ بدأت الإشارةُ إليه بشكلٍ تلميحيٍّ دالٍ على أنه حدثٌ جلل([13])، من غير تفاصيل لماهيته ونتائجه. ثم في عددٍ من المواضع- المتقاربة حينًا والمتباعدة أحيانًا أخرى- تنامى الكشفُ عن هذا الحدث، وصولًا إلى استيعاب تفاصيله، بصيغةٍ غير تقريرية، في دفقاتٍ من التداعي الاستذكاري لهذه التفاصيل، تقاسَمَها طرفا الحدث، كلٌّ منهما في مكانٍ بعيدٍ عن الآخر، قبل التئام شملهما بمسافةٍ زمنيةٍ كافيةٍ لاكتمال أجزاء المشهد.

كما يظهر على آليةِ الكتابة السردية طابعٌ من الفلسفة الخيميائية، التي قامت عليها تقنية البناء في رواية (الخيميائي)([14])، من خلال التوظيف السياقي لما أسماه (باولو كولو) "سر الإنجاز العظيم"، وأشار إليه في إهداء روايته تلك بقوله: "إلى ج. الخيميائي الذي يعرف أسرار الإنجاز العظيم ويستخدمها"([15])، كما بلور من خلاله رؤيته التي يؤكد فيها ما تكتنزه الفكرة، من قابليةٍ للصياغةِ المتسقة مع قدرات الإنسان وسعيه الدؤوب، في طريق تحقيق أحلامه ورغباته، وإنجاز سرّ خلوده، بما في ذلك وصوله إلى حقيقة الوجود القائمة في الكُلّ الواحد؛ كون "الأشياء جميعها، ليست سوى تجليات لمظهر واحد أوحد"([16]).

وقد تجلت هذه الرؤية الخيميائية، فيما اضطلعت به شخصيةُ (فاطمة) من مساعدةِ زوجها (محسن) على اكتشاف الطريق إلى تحقيق ذاته؛ إذ حفّزَتْه على تأسيس مشروعه الخاص، عوضًا عن تذمُّره من سلبيةِ إدارة والده لعمله التجاري([17]). وبعد أن حقق نجاحًا ملموسًا نشب حريقٌ كارثيٌّ في متجره فقضى على ما فيه، وأصابه بالإحباط واليأس، لكنها قدحت فيه الروح الخيميائية ثانية، مؤكدة له أن "التعثر لا يعني الفشل، والسقوط لا يعني النهاية"([18]).

كما يتجلى هذا الطابع الفلسفي، في الاتصال المباشر بين الحدث الرئيس في رواية (سمّيتُها فاطمة)، وبين المركزية السردية لهذا الطابع في رواية (الخيميائي)؛ فقد كان (خالد) على وشك الانتهاء من قراءة هذه الرواية، لولا المأساة التي حدثت بينه وبين أخيه([19]). ثم كان التصالح بينهما فاعلًا في استكماله ما لم يقرأه منها، على لسان (سعيد) في أرضية المطار حينما لحق به لتوديعه، أخبره (سعيد) عن الراعي (الشخصية الرئيسة في رواية الخيميائي) وكيف اكتشف أن الكنز الذي أرهقه البحث عنه مدفون تحت رأسه في المكان ذاته الذي ينام فيه. ثم يتوِّج هذه الإضاءة بإسقاطها عليهما، فكان هو الكنز المأمول، بينما كان (خالد) هو الراعي الباحث عنه في كل مكان، حتى ظفر به على مقربة منه: "أرأيت؟ نطيل البحث عن سعادتنا ونسلك دروبًا وعرة، أحيانًا تبعدنا عن ذواتنا وعالمنا دون أن ندرك أنها قريبة جدًّا منا، لكننا نحب التعقيد"([20]).

 

ختامًا

لقد جسّدت رواية "سميتها فاطمة"، سرديةً فارقةً في المنجز الروائي اليمني، المتعاطي مع أنساق العلاقات الاجتماعية وتشابكاتها وإشكالاتها، من خلال اشتغالها السردي على استكناه إشكاليات العلاقات بين الإخوة، وتشخيص هذه الإشكالية في سياقها الذي يتشكّل ــ منطقيًّا ــ من ثنائيتي: (السبب/ والنتيجة). مع تبني العمل رؤية سردية ذات أبعادٍ مُؤثَّثَةٍ بموضوعيةِ الحلولِ لأنساقِ هذه الإشكالية، وامتداداتها في نواة البنية الاجتماعية (الأسرة). كما اتَّسَمت الرواية بتنامٍ وحيويّةٍ فاعلة في ضبط سياقاتها، وتضفير أنساقها في أيقونة التنوير المصيري؛ انتصارًا للخير المُستنِد إلى فلسفة خيميائية مترعة بالتفاؤل والأمل.

 



([1] ) فازت هذه الرواية بجائزة "حزاوي" للسرد اليمني في دورتها الأولى2022م. وصدرت عن مؤسسة "حزاوي" للسرد اليمني، 2023.

([2] ) مياسة النخلاني، "سميتها فاطمة"، المصدر السابق، (ص23).

([3] ) نفسه، ص9.

([4] ) نفسه، ص5.

([5] ) نفس المصدر والصفحة نفسها.

([6] ) نفسه، ص89.

([7] ) نفسه، ص124.

([8] ) نفسه، ص104

([9] ) خليل الموسى، "بنية القصيدة العربية المعاصرة"، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، ص150.

([10] مياسة النخلاني، "سميتها فاطمة"، مصدر سابق، ص150.

([11] ) المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

([12] ) كانت آليةُ توزيع المضامين على الفصول، على النحو الآتي: الفصل الأول 11 صفحة (ص7ــ18)، والثاني 26 صفحة (ص19ــ44)، والثالث 30 صفحة (ص45ــ74)، والرابع 20 صفحة (ص75ــ94)، والخامس 83 صفحة (95ــ177).

([13] مياسة النخلاني، "سميتها فاطمة"، مصدر سابق، ص94،93.

([14]) الرواية للكاتب الروائي باولو كويلو. ترجمها إلى العربية: جواد صيداوي. ط18، صادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر, 2009م.

([15]) باولو كويلو, "الخيميائي"، المصدر السابق، ص5.

([16]) نفسه، ص97.

([17] مياسة النخلاني، "سمّيتها فاطمة"، مصدر سابق، ص60،59.

([18] ) نفسه، ص64

([19] ) نفسه، ص115.

([20] ) نفسه، ص172.